بسم الله الرحمن الرحيم

قصه واقعيه

الأظرف الثلاثه

أخيرا أقلعت الطائرة إلى بوسطن ..
تخترق الغيوم نحو هذه المدينة التي لم أزرها من قبل ، ولا أدري إن كان أحسستم من قبل بإرتباط شعوري بمدينة لم تروها قط ، لكن حلم بوسطن كان يدغدغني منذ مراهقتي الأولى ، حتى أني أحفظ شوارعها وطرقها ، وبإمكاني أن أتحدث مع أحد ساكنيها عن المدينة ومشاكلها كأني محافظها !
لا أدري كيف ترعرعت في خلايا عقلي الباطن مثل هذه الأمنية حتى تشبعت بها روحي وقاتلت من أجل السفر إليها ببسالة عنترة في إنقاذ عبلة ، فدخلت في صراعات مع والدي من أجل إقناعهم بالسفر ، وحصلت على أعلى الدرجات الدراسية ليتم قبولي فيها ، وتنازلت عن كل اٌغراءات المادية في سبيل الوصول إلى بوسطن ، وها أنا قادمة يا بوسطن ، في الوقت نفسه الذي كنت أفكر فيه بأن آخذ الميكروفون من كابتن الطائرة ، لأعلن لكل المسافرين :
رغم كل العقد الاجتماعية التي تحارب الأنثى في الخليج ...
ربطي بكرسي الجامعة القريبة من منزلنا ...
مريم ذاهبة إلى بوسطن !!

انقطعت تخيلاتي وسخافاتي وأنا أتحسس تلك المظاريف الثلاثة المخبأة تحت ملابسي ، فقد أعطتني إياها جدتي في اللحظات الأخيرة قبل دخولي قاعة المسافرين في المطار ، ولم أتمكن من إدخالها في الشنطة ،فهربتها في ملابسي ... أخرجت المظاريف الثلاثة وأنا أبتسم في قرارة نفسي ، فقد شعرت لحظتها بأني مهربة ممنوعات ، والغريب أني لا أدري ما فيها ، كل ما أعرفه أن جدتي أسبلت ملح عينيها وأعطتني هذه الظروف ، وقالت لي : افتحيها وقت الضيق والحاجة .
ولكن متى وقت الحاجة ...
حينما لا تجدين أحدا يحمل همك أو يمسح كآبتك ..
وأي كآبة يا جدتي في بوسطن ؟ إنها حلمي ...
مسحت تلك الدمعة الغالية وهي تحاول عبثا الابتسام .

أنا مثلكم مستغربة تماما ، فجدتي إنسانة واضحة ، بل صافية جدا ، وهي من ذلك النوع الملائكي السمح ، لا أدخل عليها إلا مصلية ساجدة ، أو ذاكرة لله تالية للقرآن ، لا تتحدث بغير الحق والخير ، كل الأمور في نظرها ماديات تافهة ، تحب المسيئين إليها بطريقة تجنني ، ودائما تجد الأعذار للمخطئين والمقصرين ، لم أر في حياتي وجها يبعث الراحة والطمأنينة في قلوب الناس كوجهها ، أخالها واحدة من السلف الصالح حينما أراها ، ولو قدر لوجهها أن يكون حروفا لكاد يكون من آي القرآن ، أما اليوم فهي أول مرة أراها باكية ، فما يكون في هذه المظاريف ؟ وصفة طعام ( فهي تجيد التعامل مع القدور ) وبالرغم من شغفي الشديد ، إلا أني سألزم وصيتها وسأفتحها في أقصى حالات الكآبة .


سأختصر لكم بوسطن بعد وصولي لها بثلاثة أشهر بكلمة واحدة : خيبة أمل !
ففي خلال أسابيع قليلة ، بعد عودة أخي الذي أوصلني واطمأن على أموري ، ماتت تدريجيا متعة الشيء الجديد ، وبدأت أعيش واقعية أكثر ، لا أهل .. لا عائلة.. لا أصدقاء.. حياة صعبة ، لا خادمة ولا سائق وغلاء مادي فاحش، ومما يعقد الموضوع أن الناس هنا مستعجلون مشغولون لا يلتفتون إلى مريم التي جاءت من أعماق صحراء شبه الجزيرة العربية التي تفيض بالبترول ، كل أصدقائي في الجامعة تنتهي علاقتي بهم بانتهاء الدراسة .
صديقاتي في السكن مجنونات ، لكل منهن عالمهن الخاص ، الأولى مدمنة كمبيوتر لا تغادر الشاشة ، والثانية تصاحب المخدة ولا تغادر فراشها إلا للضرورة القصوى ، والوحدة قاتلة !
كنت أعتقد أني سأنال حرية أكبر وأكثر ، ولكن الحقيقة أن حياتي لم تتغير كثيرا ، لا ملابسي ولا مواعيد أعمالي وخروجي ، فكل ما تغير هو الوجوه الشقراء والعيون الزرقاء والملونة بدلا من السواد العربي الجميل الذي يزحف على العيون والشعر في بلادي :: ولكن التغير حدث في داخلي ، فقد زحفت تلك الكآبة في شراييني بشكل تدريجي ، وبدأت أنياب الوحدة تنوشني وظننت أنها ضريبة الغربة !
بدأت أعوض تلك الغربة النفسية بكثرة الخروج ، والتسوق وزيارة الأصدقاء ، ولكن مهلا أنا من عائلة متوسطة .. وأعتمد على معاش البعثة الدراسية ، وبسبب المعارك الضارية التي خضتها مع والدي فقد وعدتهم أني لن أطلب منهم مالا قط !
وبسبب الخروج المكثف وأكياس التسوق المكدسة وجدت نفسي في أسابيع قليلة مفلسة مكسورة ! ولو أني في بيتنا لكان الأمر هينا ، فالأكل والشراب واٌقامة مجانية ، أما هنا فعلي أن أدفع الأجرة وثمن كل لقمة همبرغر أبلعها ، ولكني لم أنتبه لذلك ووقعت في ورطة ؟ فخلال أسبوعين سيحل موعد الإيجار .
ظللت ساهرة طوال الليل ، أفكر في حل لما أنا فيه ، هل أتحدث مع أمي ، لا لا مستحيل ، ماذا ستقول ؟ لم تستطيعي أن تصمدي من الشهور الأولى ! هل أطلب من صديقاتي أن يدفعن الأجرةعني في هذا الشهر ؟ لا كرامتي لا تسمح لي بذلك !
آه تذكرت أظرف جدتي ، لابد أنها تحوي فلوسا ، وأنا في حالة صعبة ! سأفتح إحداها .
فتحت الإنارة وتوجهت إلى المكان الذي أخبئ فيه هذه الظروف ، قلبتها بين أناملي ، مسحت على إحداها كما تمسح الحامل على بطنها تتحسس الطفل في رحمها ، لاحظت أن الظروف مرقمة ، فأخذت الظرف الأول ، وفتحته يا لخيبة الأمل لم أر فلوسا ، فقد كان بداخله ورقة مطوية ، فضضتها على عجل ، لأجد ورقة كبيرة مكتوب فيها سطر يتيم ، بخط عجوز مرتعش :
(( كيف أخشى الفقر .. وأنا عبد الغني ))
أخذت أتفكر في جمال هذه العبارة المكتوبة بخط جدتي الذي تعلمته في الكتاب ، وأنا أنظر من نافذتي إلى ناطحات السحاب والمباني النائمة على أرصفة بوسطن ، فبدت لي هذه الحروف أكثر شموخا من ذلك الإسمنت الخانق ، وسرى في داخلي هاتف يقول :
(( يا مريم .. هل ترين كل هذه الأبنية الشاهقة ، البنوك مليئة بالأوراق الخضراء ، شاشات أسهم الشركات الصاعدة ، رجال أعمال والكادحين..
العالم المترامي وهذا العالم كله نقطة من هذا الكون الشاسع ، وكل ما في هذا الكون رزق من الكريم الوهاب ، فهل تشين في كرم الله ، قفي بين يديه واطلبيه ،فأنتي أمته وهو يحب عباده وكريم معهم ..
وبلا شعور .. توضئت وصليت ..
وفي الحقيقة منذ وصلت هنا ولا أحد يشجعني على صلاة ، فتذبذبت صلاتي وتقطعت إلى أن اغبرت سجادتي..
فيه ذلة المحتاج ، وفيه أمل بكرم الكريم ، وقد كان دعاء صادقا خالصا من قلبي ..
وقررت أن أتوكل على الله ، وأن أبحث عن عمل من صباح الغد، وتوجهت إلى المركز الإسلامي وتبرعت بمبلغ صغير ومضى وجه النهار دون أن أجد وظيفة ، عدت إلى بيتي في المساء منهارة ، ما في جيبي غير دولارات لا تكفي ليومين !
فتحت بريدي الإلكتروني لأجد إحدى صديقاتي قد أرسلت لي رسالة تعتذر عن عدم إهدائي هدية تخرجي لظروف سفرها ، وبسبب بعد المسافة بيننا فلن تتمكن من إرسال هديتها لي ، لذا فهي تريد رقم حسابي لكي تحول لي مبلغا ماليا !!
سبحانك يا غني ..
ترزق الطائر الأعمى في عشه .. والنسر الصغير فوق الجبل.. والسمكة في قاع البحر.. فقمت وصليت من فوري ..
وبوجه عريض أرسلت لها رقم حسابي وحولت لي مبلغا كاف بعد يومين أنقذني من تلك الورطة.
حمدا لك يا رب .. وشكرا لك جدتي .


قللت خروجي ومصارفي بشكل واضح ، وتعلمت معنى التوكل عليه والتعلق به في كل صغيرة وكبيرة ..
ولكن الوحدة والغربة ظلت تلاحقني ..
ساءت حالتي النفسية ، وبدأت لا أتحدث كثيرا ، لا أحب الخروج ، سلوتي في المحاضرات والدراسة فقط .

ومع الأيام بدأت تزيد الخلافات مع صديقاتي في الجامعة والسكن ، حيث بدأ يظهر التباين في الشخصيات والأخلاق بشكل ملحوظ ، وبدأت تنقطع علاقاتي مع صديقاتي في الخليج ، حتى أحسست أني أقبع خلف القضبان ، وبالرغم من حريتي ، وجدتني مسجونة وحيدة في بلاد الغرب!

وعدت إلى درجي أخرج المظروف الثاني ، ولم أقو على فتحه لمدة ثلاثة أيام ، فوضعته على الطاولة ، أقلبه كمنتحر يمسك بمسدس بين يديه ، يراجع قرار انتحاره أياما ، وفي اليوم الثالث ، خنقتني الكآبة وطرحتني الوحدة أرضا ، فوجدتني أفض الورقة بيد مرتعشة ، وأنا متأكدة أنها ستكون سببا في شفائي ، ما هذا لم أجد ورقة هذه المرة ، بل وجدت قطعة صغيرة على شكل الرقم 5 ! فحصت الرقم من جوانبه ، لم أجد فيه شيئا يذكر ! ما الذي يمكن أن يعنيه رقم 5 في حياتنا ! وكيف تعالج ال 5 حالة الكآبة التي أعانيها ؟!بعد فترة من التفكير ، قفزت إلى عقلي تلك العبارة الشهيرة التي تذكرها جدتي باستمرار ، وهي تفرد أصابعها الخمس في وجهنا :

(( كيف الوحشة ونحن نلتقي به خمس مرات في اليوم ))

يا لغبائي .. كيف لم أدرك بأن الرقم 5 مو خمس صلوات في اليوم ! وبدأت بإتباع وصفتها ، أصلي الصلوات الخمس في اليوم على وقتها مهما كانت الظروف ، وفي أقل من ثلاثة أيام انتفضت نفسي طاردة تلك الوحدة والكآبة ، وأحسست بأني خارجة لتوي من السجن .
فجزاك الله عني خير الجزاء يا جدتي !


ففي أول يوم من رمضان اتصلت صديقتي من بلدي باكية تعزيني فأجبتها من وراء الهاتف :
عظم الله أجري ! لماذا؟ من المتوفي ؟
تلعثمت .. إذ كانت تظن أني أعرف ، لكنها تفاجئت بجهلي ، وبدأت أصرخ على الهاتف وأنتحب ، أطالبها بأن تكشف عن الحقيقة ، فأتتني بذلك الخبر الذي كذبته آمالي .. موت جدتي !
كيف تموت ! كيف سيكون حال العائلة بعد ذهاب أم الخير والنور !! ما الذي سيعوض بركة تلاوتها وصلاتها كل يوم !! ومادت بي الأرض !
وعلمت خلال ساعات أنهم أرسلوا أخي الأكبر على أول طائرة ليخبرني بالخبر ويحملني لمراسم العزاء .. إلا أنني عرفت الخبر قبل قدومه ..
إعتزلت غرفتي ، والعزلة في حقيقتها تمكنك من الاتصال بذاتك ، من قراءة تاريخك الشخصي ، أما الاختلاط بالناس فيعكر ذلك الصفاء .. أردتساعتها أن أحزن دون أن يعكر أحد صفو حزني .. أردت أن أبكيها وأتذكرها دون أن يفسد الآخرون علي متعة الدموع .. وظللت هكذا منغمسة مستمتعة بحزني وبكائي لساعات طويلة ..

ثم وجدت جسدي يقوم من مكانه ، ويخطو كالماشي في النوم نحو الدرج ، ويستل رسالتها الأخبرة .. لأشمها.. وأضمها في صدري..
ثم تقرفصت على فراشي .. جففتدموعي .. بلعت غصة حزن كانت في ريقي .. وجلست أتأمل رسالتها الأخيرة .. قبلت الرسالة كأني أقبل أديم جدتي .. أحيانا تكون الأشياء الصغيرة امتدادا لجوارح الناس ، وكانت تلك الرسالة امتدادا لبشرتها النقية الصافية .
وبعد ساعات قلبت الرسالة عاجزة عن فتحها ، وجمعت ما تبقى في نفسي من عزم وشجاعة ، وفتحت الرسالة :

(( كنت أجمل ما في حياتي يا مريومتي الصغيرة .. ولطالما سألتني عن السر في اسمك .. أحببت أن أتركه لك سرا ، لتجهدي في البحث عنه وتقديره أكثر .. السر في اسمك يا مريم هو : كهيعص.. والنداء الخفي.. ))

انتهت رسالتها بينما تركزت عيناي على السطر الأخير ، كهيعص.. والنداء الخفي..
وحار فكري لمدة قصيرة ، ثم تنبهت إلى السر .. كهيعص هي الحروف الأولى من سورة مريم ! تلك السورة التي أحمل اسمها .. هرعت أفتح المصحف الشريف ، لأقرأ السورة الكريمة :
(( كهيعص(1) ذكر رحمة ربك عبده زكريا (2) إذنادى ربه نداء خفيا (3) ))
يااااه.. كم يبدو لفظ نداء خفيا رقراقا وصافيا ومؤثرا في النفس ! من منا ينادي ربه ؟ ومن منا يناجيه في الخفاء ؟ ومن منا يستغل سجدته في الليل ليحادث مالك الملك يرجوه ويدعوه ويأنس به ؟

أكملت قراءة سورة مريم .. ورفعت يدي أناديه وأناجيه أن يغفر لها ويرحمها ..
وقضيت ليلي أناجيه وأحادثه طوال الليل.
وفي الصباح وصل أخي ، ليفاجأ برؤيتي متماسكة هادئة وادعة بل مبتسمة !
ومن يومها أصبحت مثلها .. دائمة الابتسام .. كثيرة النداء الخفي .. مفتخرة باسمي مريم .. ولم يرني أحد قاطبة أو متضايقة ..
فأنا لا أخشى الفقر ؛ لأني أمة الغني ..
وأنا لا تزورني الوحشة ؛ لأني آنس به سبحانه وتعالى خمس مرات في اليوم .. وأنا سعيدة ؛ لأني أستغل لحظات يومي بذكره وليلي بمناجاته ..

كيف لا تكون هذه حالي !وأنا أعيش لذة الطاعة.. جربيهااا